في عشرينياتِ القرنِ الماضي؛اكتشفَالعالِمانالألمانيانِ”هانزكروتزفيلد”و”ألفونسجاكوب”مرضًاتنكسيًّايُصيبُالأغنامَوالماعزَوالبشر،يتسببُذلكَالمرضُفياضطراباتٍدماغيةٍتُشبهُالخرَف؛إلا أنَّه على عكسِه، يتفاقمُ بسرعةٍ كبيرة。
لمْ يعرفْ أحدٌ سببَ ذلكَ المرض؛الذي أُطلقَ عليهِ مرضَ "كروتزفيلد-جاكوب"。إلا بعدَ مرورِ نحوِ ستينَ عامًا على اكتشافِه؛حينَتمكَّنَالعالِمُالأمريكيُّ”ستانليبروسينر”منْتحقيقِاكتشافٍرائد؛لمْ يُفسرِ السببَ وراءَ ذلكَ المرضِ فحسبُ؛بلْحددَأسبابَفئةٍكاملةٍمنَالأمراضِيقعُفيالقلبِمنهامرضُ”كروتزفيلد——جاكوب”。هذاالاكتشافُقادَ”بروسينر”للحصولِعلىجائزةِنوبلالطبِّعامَألفٍوتِسعِمئةٍوسبعةٍوتسعين。
يعرفُ الجميعُ أنَّ الفيروساتِ تُسببُ الأمراض؛وأنَّالبكتيرياوالفطرياتِوالطفيلياتِتفعلُالأمرَذاتَه。لكنَّ”بروسينر”تمكَّنَمنِاكتشافِنوعٍجديدٍتمامًامنَالعواملِالمسبِّبةِللأمراض؛وقامَ بتوضيحِ المبادئِ الأساسيةِ لطريقةِ عملِها。ذلكَالنوعُالذيأَطلقَعليهِالعالِمُالأمريكيُّاسمَ”البريونات”。
تُوجدُالبريوناتُبشكلٍطبيعيٍّكبروتيناتٍخلويةٍغيرِضارة،إلاأنَّلَهاقدرةًفطريةًعلىتحويلِهياكلِهاإلىتركيباتٍشديدةِالثباتِتؤدِّيفيالنهايةِإلىتكوينِجزيئاتٍضارة،مايجعلُهاأحدَالعواملِالمسببةِللعديدِمنْأمراضِالدماغِالمميتةِفيالبشرِوالحيوانات。قدْتكونُأمراضُالبريونوراثية،وقدْتحدثُتلقائيًّا。وتُسببُضررًاشديدًافيمناطقَدماغيةٍمُحوِّلةًالخلاياالعصبيةَإلىخلايالهامظهرٌإسفنجيٌّمميز。
وتُسببُتلكَالبريوناتُأعراضًاعصبيةًمنْضمنِهاضعفُالتحكمِفيالعضلاتِوفقدانُالذاكرة。أسهَمَنجاحُ”بروسينر”فياكتشافِتلكَالجسيماتِفيتوفيرِبصائرَمهمةٍوفرتْأساسًالفهمِالآلياتِالبيولوجيةِالكامنةِوراءَعددٍمنَالأمراضِالتنكسية؛كالخرفِوالشللِالرعاش،كماوضعتِالعلماءَعلىالطريقِالمُثلَىلتصميمِأدويةٍوأنواعٍجديدةٍمنْإستراتيجياتِالعلاجِالطبي。
فيعامِألفٍوتِسعِمئةٍواثنينِوسبعين،بدأَ”بروسينر”عملَهُبعدَوفاةِأحدِمرضاهُبسببِالخرَفِالناتجِعنْمرضِكروتزفيلدجاكوب。كانَهناكَالعديدُمنَالنظرياتِالمتعلقةِبطبيعةِالعامِلِالمُسببِللمرض،بمافيذلكَالنظرياتُالتيافترضتْأنَّذلكَالعاملَيفتقرُإلىالحمضِالنووي،وهيَفرضيةٌمثيرةٌمنذُذلكَالوقت،إذِاحتوتْجميعُالعواملِالمُعديةِالمعروفةِ——كالبكتيرياوالفيروسات——علىالمادةِالوراثيةِDNAأوRNA。
قبلَ”بروسينر”كانَهناكَتحدٍّهائلٌلتحديدِالعامِلِالمُسببِلذلكَالمرضِبدقة؛وبعدَ عَشرِ سنواتٍ منَ الأبحاث؛نجحَفيإنتاجِمستحضرٍمشتقٍّمنْأدمغةِفئرانِالتجاربِالمريضةِيحتويعلىعاملٍمُعدٍيتكونُمنْبروتينٍواحدٍفقط. .أَطلقَعليهِ”بروسين”راسمَ”البريون”،وهوَاختصارٌمعناهُ”جسيمٌمُعْدٍبروتيني”。
استقبلَالمجتمعُالعلميُّهذاالاكتشافَبقدرٍكبيرٍمنَالشك،ومعَذلكَ،واصلَ”بروسينر”مهمتَهالشاقةَلتحديدِالطبيعةِالدقيقةِلهذاالعامِلِالمُعديالجديد。
كانَهناكَالعديدُمنَالأسئلةِالتيتشغلُبالَ”بروسينر”……فأينَالجينُالذيقامَبتشفيرِالبريون،وماهيَقطعةُالحمضِالنوويِّالتيتحددُتسلسلَالأحماضِالأمينيةِالمكونةِلبروتينِالبريون؟
جاءتِالإجاباتُعنْهذهِالأسئلةِفيعامِألفٍوتِسعِمئةٍوأربعةٍوثمانينَعندَماعزلَبروسينرمسارًاجينيًّاليُظهرَلاحقًاأنَّجينَالبريونموجودٌفيجميعِالكائناتِالحيةِالتيتمَّاختبارُها،ومنضمنِهاالإنسان!
لكنْ؛إذاماكانَذلكَالجينُموجودًافيجميعِالحيوانات؛وفيالبشر. .فلماذايُصابُبعضُهافقطبالخرَفِفيحينِلايُصابُمعظمُهابذلكَالمرض؟
جاءتِ الإجابةُ بعدَ عامَينِ آخرَين؛حينَاكتشفَ”بروسينر”أنَّذلكَالبروتينَالذييُشفرُهذلكَالجينُينقسمُإلىشكلَينِمتميزين؛أحدُهمايُسببُالمرض؛أما الشكلُ الآخرُ فلا يُسببُ أيَّ مشكلة。
فالبروتينُالمُسببُللمر——وضالذييُطلَقُعليهِاسمُPrPSc——مستقرٌّللغاية؛ولا يتحللُ بالمذيباتِ العضوية؛وبالتالييتراكمُفيالدماغِويتزايدُليُتلفَأنسجةَالدماغِويُسببَالأمراضَالتنكسية。
بعدَذلكَ؛اكتشفَ”بروسينر”مجموعةًمنَالطفراتِالمحددةِداخلَجينِالبريون。تتسببُتلكَالطفراتُفيتكوينِالبروتيناتِالمستقرة؛وعندَما تتجمعُ في منطقةِ المخيخ؛تنخفضُ القدرةُ على تنسيقِ حركاتِ الجسم。فيحينِتتأثرُالذاكرةُوالحدةُالعقليةُإذاماتجمعتِالقشرةُالدماغية。فيالوقتِالذيتؤثرُفيهِالبريوناتُالتيتصيبُجذعَالدماغِبشكلٍأساسيٍّعلىحركةِالجسم。
أكدَ”بروسينر”أيضًاأنَّالبريوناتِأصغرُبكثيرٍمنَالفيروسات。كماأوضحَسببَعدمِإثارتِهاللاستجابةِالمناعية. .فتلكَالجزيئاتُموجودةٌكبروتيناتٍطبيعيةٍمنذُالولادة。كماأنَّهاليستْسامة،ولكنهاتصبِحُضارةًفقطْمنْخلالِالتحوُّلِإلىبنيةٍتمكِّنُبروتيناتِالبريونِالمسببةِللأمراضِمنَالتفاعُلِمعًالتشكيلِهياكلَتشبهُالخيوطَوالتجمعاتِالتيتدمرُالخلاياالعصبيةَفيالنهاية؛وبالتاليلاتُوجدُآلياتُدفاعٍمناعيةٌضدَّالبريونات؛تلكَالجزيئاتُالتيتظلُّتعبثُفيأدمغتِنادونَرادعٍحتىتتمكنَمنْقتلِالمُصابِبها。
بسببِ عملِ "بروسينر" الرائد؛تمكَّنَالعلماءُمنْتفسيرِأسبابِأمراضٍمختلفةٍتصيبُالإنسانَوالحيوان؛منْضمنِهامرضُ”سكرابي”الذييُصيبُالأغنامَواكتُشفَفيالقرنِالثامنَعشَرَولمْيعرفِالعلماءُسببَهحتىجاءَ”بروسينر”بالتفسيرِالذيوضحَأيضًاأسبابَمرضِ”جنونِالبق”رالذييُصيبُالماشية؛ومرضِ”جيرسمان——ستراويلر——سينك”رالذييُصيبُالبشر؛و”الأرقِالعائليِّالمُميت”. .وبالطبعِمرضَ”كروتزفيلد——جاكوب”。
لأكثرَ منْ عَشرِ سنواتٍ بعدَ الاكتشاف؛خاضَ”بروسينر”معركةًغيرَمتكافئةٍضدَّمعارضةٍساحقةٍفيالمجتمعِالعلمي。ومعَذلك؛قررَالعالِمُالأمريكيُّالاستمرارَفيعملِهحتىاكتمالِأركانِهفيتسعينياتِالقرنِالعشرين؛وحينَ طرحَ الدليلَ كاملًا؛سكتتِالألسنة؛ورُفعتِالقبعاتُتحيةًلذلكَالرجلِالذياكتشفَعاملًامرضيًّامُعديًاينبُعُمنْداخلِنا. .عاملًااسمُهالبريون。
وُلدَ”ستانليبروسينر”عامَألفٍوتِسعِمئةٍواثنينِوأربعينَفيولايةِ”أيوا”الأمريكية。تمتْتسميتُهعلىاسمِالأخِالأصغرِلوالدِهالذيتُوفيَبمرضِ”هودجكين”عنْعمرٍيناهزُأربعةًوعشرينَعامًا。التحقَوالدُهبالبحريةِالأمريكيةِمُجندًاخلالَالحربِالعالميةِالثانية؛لتنتقلَالعائلةُمعَهُإلىبوسطنالتيكانتْآنذاكَمركزًالتدريبِالضباطِالبحريين؛خدمَوالدُهفيجزيرةِ”إنيوتوك”بجنوبِالمحيطِالهادئ؛تلكَالجزيرةُالتيشهدتْبعدَعشَرةِأعوامٍتفجيرَأولِقنبلةٍهيدروجينيةٍفيالتاريخ。
بعدَ نهايةِ الحربِ العالمية؛عادتِ العائلةُ إلى مسقطِ رأسِها مرةً أخرى؛وحصلَ والدُه على وظيفةِ مهندسِ معمار؛تلكَالوظيفةالتيوفرتلعائلتهمنزلًامريحًاودخلًاجيدًا。
التحقَ”ستانلي”بمدرسةٍمحليةٍوأطلقَعليهِزملاؤُهاسمَالعبقريِّالصغيرِبعدَأنْصممَجهازًاطاردًاللحشرات。درسَفيتلكَالمدرسةِاللغةَاللاتينيةَلمدةِخمسِسنوات؛الأمرُالذيساعدَهلاحقًاعلىكتابةِالأوراقِالعلمية。وللمضيِّقُدُمًافيحبِّهللعلم،التحقَبجامعةِبنسلفانياحيثُتخصصَفيالكيمياء。بالإضافةِإلىالدوراتِالعلمية،درسَأيضًاالفلسفةَوتاريخَالعمارةِوالاقتصادَوالتاريخَالروسي،وحصلَفيالنهايةِعلىدرجةِبكالوريوسِالعلومِفيالكيمياءِعامَألفٍوتِسعِمئةٍوأربعةٍوستين。
فيأوائلِعامِألفٍوتِسعِمئةٍوثمانيةٍوستين،عادَإلىفيلادلفيالإكمالِدراستِهوالتفكيرِفيخياراتِه。تلقَّىعرضًابتقلدِمنصبٍفيالمعاهدِالأمريكيةِللصحةِبمجردِأنْأكملَفترةَتدريبٍفيالطب؛قبِلَالعرضَوبدأَالعملَهناكَعلىبكتيرياالأشريكيةِالقولونية。
في المعاهدِ الأمريكيةِ للصحة؛تعلمَ قدرًا هائلاً عنْ عمليةِ البحثِ العلمي؛وتطويرِالمقايسات،وتنقيةِالجزيئاتِالكبيرة،وتوثيقِالاكتشافِبالعديدِمنَالأساليب،وكتابِةمخطوطاتٍواضحةٍتصفُماهوَمعروفٌوماتبقَّىمنَالتحقيق。معَاقترابِنهايةِالفترةِالتيأمضاهافيالمعاهدِالأمريكيةِللصحة،قررَتطويرَمهارتِهفيالتعرفِعلىالجهازِالعصبي؛وفييوليوعامَألفٍوتِسعِمئةٍواثنينِوسبعين،بدأَالعملَفيجامعةِكاليفورنياسانفرانسيسكوفيقسمِطبِّالأعصاب。
بعدَشهرينِ،استقبلَمريضةًكانتْتُعانيمنْفقدانٍتدريجيٍّللذاكرةِوصعوبةٍفيأداءِبعضِالمهماتِالروتينية。فوجئَعندَماعلمَأنَّهاكانتْتموتُمنْعدوى”فيروسٍبطيء”يُسببُمرضَكروتزفيلدجاكوب。أدركَوقتَهاأنَّتلكَ”العدوى”لايُمكنُأنْتُسببَهاالفيروساتُبسببِعدمِوجودِأيِّاستجابةٍمنْدفاعاتِالجسمِالمناعية؛لذاقررَالبحثَعنْ”سببٍتخيُّليٍّ”للإصابةِبذلكَالمرض؛ليبدأَمشروعَهالبحثيَّالخاصَّالذيقادَهلاكتشافِالبريونات。
فيالبدايةِ؛واجهَ "بروسينر" معارضةً عميقة。يقولُالعالِمُالأمريكي:“فيحينِأنَّهُمنَالمعقولِتمامًاللعلماءِأنْيكونُوامتشككينَفيالأفكارِالجديدةِالتيلاتتناسبُمعَمجالِالمعرفةِالعلميةِالمقبولة،غالبًاماينبثقُأفضلُعلمٍمنَالمواقفِالتيلاتتناسبُفيهاالنتائجُالتيتمَّالحصولُعليهابعنايةٍمعَالنماذجِالمقبولة”。
فيبعضِالأحيان،كانتِالصحافةُتنخرطُفيمعاركَضدَّأفكارِه؛تسببَ الهجومُ عليهِ في معاناةِ زوجتِه وأطفالِه。إلا أنَّه استكملَ عملَه بجلَدٍ وصبر؛حتى اكتملتْ نظريتُه وأصبحتْ غيرَ قابلةٍ للدحض。
يقولُ”بروسينر”:كثيرًاماسألَنيالناسُعنْسببِإصراريعلىإجراءِبحثٍحولَموضوعٍمثيرٍللجدل。كثيرًاماأردُّبإخبارِهمبأنَّعددًاقليلًافقطْمنَالعلماءِحصلُواعلىفرصةٍكبيرةٍلمتابعةِموضوعاتٍجديدةٍومختلفةٍلدرجةِأنَّعددًاقليلاًفقطْمنَالناسِيمكنُهُمفهمُمعنىهذهِالاكتشافاتِفيالبداية。أناواحدٌمنْهؤلاءِالعلماءِالمحظوظينَحقًّاالذينَأُتيحتْلهمْفرصةٌخاصةٌللعملِعلىمثلِهذهِالمشكلةِ——مشكلةِالبريونات。