في جبال أطلس المغربية تمتد زاكورة ZAGORA، جنوبي شرقي المغرب، إحدى بقايا قارة جندوانا العملاقة (القارات الجنوبية القديمة)، وواحدة من أهم المناطق في دولة المغرب الشاهدة على مناخ الأرض البارد؛ إذ كان الصقيع قد ضرب الكرة الأرضية في نهايات العصر الأوردوفيشي، أي منذ حوالي 445 مليون سنة تقريبًا.

لم تحتفظ زاكورة بتاريخ الأرض المتجمد فقط، بل أسَرت بعض أنواع الكائنات المتحفرة في طيات صخورها؛ إذ عُدَّت تمثيلًا دقيقًا للحياة على الأرض في ذلك الزمن البعيد، حيث بدايات عهد الأسماك، وتشمل الحفريات الكثير من الأصداف البحرية ومفصليات الأقدام التي وصل طول بعضها إلى حوالي 150 سم، وفق عبد الواحد لكناوي، أستاذ حفريات الأثر والصخور الرسوبية بجامعة الحسن الأول بالمغرب وجامعة قازان بروسيا، في حديثه لـ"للعلم".

سِحر زاكورة لا يتوقف على التنوع الحيوي الكبير فيما يتعلق بالكائنات المتحفرة، ولا الأحداث البيولوجية الموثقة في الصخور، بل يمتد إلى الصخور ذاتها، فالمنطقة فيها من تضاريس الوديان والجبال والكثبان الرملية ما يُذهل الجَنان.

لاحظ لكناوي وزملاؤه من علماء المغرب الخطر الداهم الذي قد يهدد منطقةً ثريةً وفريدةً مثل زاكورة، لذا عكفوا علىدراسةنُشرت في دورية جيوهيريتاج (Geoheritage) لدمج التراث الجيولوجي والأثري من أجل الحفاظ على المنطقة والترويج لها كموقع جيوبارك معترَف به من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، لتكون ثاني جيوبارك مغربية وأفريقية بعد جيوبارك ميجون التي تبعد عنها مسافة خمس ساعات بالسيارة، والشهيرة بآثار الديناصورات.

والجيوبارك هي منطقة فريدة جغرافيًّا وذات تكوينات جيولوجية متميزة، تُدار بمعايير اليونسكو من أجل الحفاظ عليها واستدامة تميُّزها.

يقول "لكناوي": "لقد كان للإنسان القديم بصمته في منطقة زاجورا، حيث اكتُشفت الأدوات التي كان يستخدمها وأبرزها الرماح الكبيرة، كما أن هناك رسومات متعددة مستوحاة من البيئة المحيطة، مثل رسم الزرافة والحصان، كما توجد بعض الأشكال والأدوات التي تحتاج إلى مزيد من الدراسة المتخصصة لمعرفة هويتها"، مشددًا على أن "تكامُل التاريخ الطبيعي والحضاري لهذه المنطقة يجعلها مؤهلةً لتحويلها إلى جيوبارك".

نماذج من رسومات الإنسان القديم في زاكورة Credit: Abdelouahed Legnaoui

للجيوبارك معايير متبعة

ازداد الاهتمام بالمواقع ذات الأهمية الجيولوجية في العقود الأخيرة، في جميع أنحاء العالم؛ نظرًا لخطر تعرُّضها للتلف أو التدمير الناتج عن الاستخدام غير الواعي أو غير القانوني للأراضي، وإثر ذلك أوصت اليونسكو بإرساء مفهوم الجيوبارك امتدادًا لفكرة المحميات.

"تمتد جذور المحميات الطبيعية لآلاف السنين، وقتما كان الناس يشتغلون بالرعي والتجارة الموسمية، آنذاك حصل تحالفٌ ضمني بين الناس لتقسيم المواسم فيما بينهم، وترك موسم لا يرعى الناس فيه مطلقًا لحماية المنطقة"، كما صرح محمد طلعت، خبير التراث الطبيعي العالمي والمحميات الطبيعية، في حديثه لـ"للعلم"، مضيفًا: "كانت الروحانيات أيضًا ضمن الأسباب التي أدت إلى ظهور المحميات كما هو قائمٌ في الهند، ثم تطورت الأمور بعد ذلك لتصبح على ما هي عليه الآن".

يقول محمد سامح، مدير محميات المنطقة المركزية بجهاز شؤون البيئة، في حديثه لموقع "للعلم": "للجيوبارك سَمتٌ عام مُتفق عليه دوليًّا، وقد تم الاتفاق الضمني على إبقاء كلمة جيوبارك دون ترجمتها إلى العربية، للتعبير عن تلك المناطق".

ويوضح "طلعت": "لا بد أن تحكي المنطقة عن تاريخ كوكب الأرض وتطوُّر الحياة عليه، سواء متمثلة في تكوُّنات جيولوجية فريدة أو حفريات لجعلها جيوبارك، ليس هذا فقط، بل يمكن أن تحتوي على صخور تُظهر الحركات التكتونية وتأثيرات الحركات الأرضية والزلازل، إضافةً إلى العيون السخنة، والتكوينات الصخرية المختلفة التي أثرت عليها عوامل التعرية".

وتابع: "هناك معايير أخرى تؤهل المنطقة لتكون جيوبارك، مثل مناطق البراكين والبحيرات والكهوف، وأيضًا رواسب العصور الجليدية أو أماكن سقوط النيازك في تلك المنطقة".

بعض معالم منطقة زاكورة Credit: Abdelouahed Legnaoui

جريتر فيوم المصرية

فيهذاالإطار،تأتيمصرأيضًاضمنخطةاليونسكوللجيوبارك؛ إذ يُعد ثراء مدينة الفيوم الثقافية وكذلك الموارد الطبيعية تركيبةً استثنائية، فيها مزيج من المناظر الطبيعية الخلابة الصحراوية التي تتخللها البحيرات والكثبان الرملية والواحات الخضراء المأهولة وغير المأهولة ومجتمعات الطيور المقيمة والمهاجرة، بالإضافة إلى المجتمع المحلي الغني الذي يعيش حولها، مما يجعلها وجهةً سياحيةً ممتازة في مصر، وبالتالي يُقترح إنشاء مشروع جيد لجيوبارك وتسميته بـ(جريتر فيوم)، وقد تزامن تضمينه مع زاكورة المغربية على أجندة اليونسكو القادمة.

يقول "سامح": "الفيوم هي مصر الصغيرة، فهي منطقة ذات تاريخ غني ومثير للاهتمام يمثل وجهةً سياحيةً وبيئيةً لا مثيل لها، ليس فقط في مصر بل أيضًا في جميع أنحاء العالم، فالحضارة القديمة في الفيوم تعكس التوليفة الفريدة بين الإنسان والبيئة الطبيعية المحيطة به".

فالفيوم هي موطن وادي الحيتان، وهي موقع التراث العالمي الطبيعي الوحيد في مصر، الذي سُجل في عام 2005 ضمن قائمة اليونسكو للمحميات الطبيعية، وقائمة التراث الطبيعي، نظرًا لقيمة الموقع التاريخية والجيولوجية.ا

أحد الاحتفالات المقامة في منطقة وادي الحيتان Credit: Mohamed Sameh

يقع وادي الحيتان في محمية وادي الريان، وهو مشهور عالميًّا بمحتواه من الحفريات التي تحكي القصة الشهيرة لتطور الحيتان، في هذا الموقع يمكنك العثور على آثار وهياكل عظمية متحجرة للحيتان المائية والبرمائية، وعرائس البحر، والسلاحف، والتماسيح، وأسماك المنشار، وغيرها الكثير، والتي يعود تاريخ بعضها إلى ما يقرب من 40 مليون سنة مضت، ولقد كان لوادي الحيتان من الأثر الجيد على السكان المحليين في رفع وضعهم الاقتصادي وتوفير فرص عمل، مما جعلهم يحددون يومًا في السنة، هو (17 يوليو) ليُعد عيدًا لميلاد وادي الحيتان"، وفق "سامح".

وفي الفيوم أيضًا موقع جبل القطراني، واحد من أقدم المواقع في العالم الذي يشهد تطور حياة الرئيسيات والأفيال، بالإضافة إلى الثدييات البرية الأخرى، جنبًا إلى جنب مع آثار الكائنات البحرية، وتُعد الغابة المتحجرة في جبل القطراني أكبر مساحة تحتوي على أخشاب متحجرة في العالم، والموقع هو الأول في القائمة المصرية المبدئية المقدمة لليونسكو ليتم إعلانه ثانيَ موقع تراث طبيعي عالمي في مصر، والأول من نوعه في العالم الذي يُظهر البيئة البرية والبحرية القديمة (قبل نحو 37 مليون سنة) في مكانٍ واحد.

والجيوبارك أومشروعإدارة الحدائق الجيولوجية العالمية لليونسكو هو مبادرة أممية ذات شعبية متزايدة، تسعى إلى إدارة المناطق الجغرافية ومواقع المناظر الطبيعية ذات الأهمية الجيولوجية الدولية بمفهوم شامل للحماية والتعليم والتنمية المستدامة، يمكن من خلاله الجمع بين حفظ التراث والتنمية المستدامة مع إشراك المجتمعات المحلية، في الوقت الحاضر، هناك 177 حديقة جيولوجية عالمية (جيوبارك) تابعة لليونسكو في 46 دولة، وتدعم المنظمة جهود الدول الأعضاء لإنشاء حدائق جيولوجية عالمية في جميع أنحاء العالم.

من محمية وادي الحيتان Credit: Mohamed Sameh

الوعي هو المفتاح

"الوعي المجتمعي والإدارة المستنيرة هما حجرا أساس لنجاح الجيوبارك"، وفق "طلعت"، ويوافقه في الرأي "القناوي" قائلًا: "بدأنا في المغرب بتوعية المرشدين السياحيين، لفهم المكونات الجيولوجية المختلفة عبر ورش عمل متسلسلة بين المسؤولين والعلماء والمرشدين السياحيين والسكان المحليين".

وفي هذا الصدد، يقول "سامح": "لقد أدينا دورنا بعمل أول محتوى علمي في الوطن العربي بالتعاون مع اليونسكو، وجرى تقديمه إلى مديري المحميات والمسؤولين عن حماية الطبيعة"، ويضيف "طلعت": سيتم الإعلان عن هذا المحتوى العلمي للعالم كله والمهتمين بدراسة البيئة في الجامعات وغيرها خلال سبتمبر الحالي".

ومنشأنالجيوباركأنتهدفإلىتعزيزالشعوربالمكانعلى المستوى المحلي، وتوجيه تلك المناطق نحو النمو الاقتصادي، يقول "طلعت": "تحتل سياحة الجيوبارك أهميةً اقتصاديةً واضحةً ومباشرة، إذ تقدم موارد بديلة وفرص عمل مستدامة، تساعد بدورها على الرواج الاقتصادي".

من جانبه يقول "لكناوي": "تسطيع الجيوبارك إحداث نهضة اقتصادية في هذه المنطقة، لذا لا بد من تفعيل أواصر الترابط بين الإنسان والكائنات والجيولوجيا، فمن شأن ذلك زيادة الوعي حول الخدمات المختلفة من خلال التنوع الجغرافي، وبالتالي فهم أهمية التراث الطبيعي في رفع مكانة الأشخاص والدول، مما يشجع الجميع على جعل الحفاظ على التراث الطبيعي والبشري أولويةً رئيسية".